د. حسن بن فهد الهويمل
بين الفراغ والامتلاء شعور متذبذب لا يقر إلا كما يقر ضوء المرآة في كف الأشل.
الممتلئ يتأوه.. ويتفصد عرقاً، ويضيق صدره، ولا ينطلق لسانه ويبدو مرتبكاً كما لو أنه مغلوب على أمره،..
وبوده لو حبست الشمس في كبد السماء لينهي ما يود إنهاءه، المرء يموت وحاجاته باقية، وكل من تحت الثرى فارقوا الحياة وفي أنفسهم حاجات لم تنقض وآمال عريضة جمدت على شفاههم وهم يؤملون.
والفارغ يتأوه لأن فائض الوقت والجهد يثقل كاهله، وغبطته أو حسده للممتلئين يعتصران قلبه:
أواه إن نظَرت وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن أليم
وهكذا امتلاء الحياة وفراغها عناء في الذهاب وفي الإياب، وهكذا هي حيوات الناس إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم، الممتلئ يود لو أنه فارغ ليبتهج بملذات الحياة، والفارغ يود لو أنه ممتلئ ليؤتى مثلما أوتي السعداء، والشهوات العارمة تريد من المستعبد أن يسبق ظله ليحسم أمره، ولو كانت سرعة الضوء بالنسبة لسرعته كسرعة السلحفاة لما استطاع أن يباريه فضلاً عن أن يسبقه، إن التطلع للفراغ أو الامتلاء نوع من ملل الرتابة، وسيظل الإنسان متأوها في كل حال، ضجراً حتى من الضجر، ولكنه حين يفقد ما سئمه يبكي عليه بحرقة..
رب يوم بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
فالصحيح لا يشعر بالصحة إلا في حال المرض، والغني لا يشعر بالغنى إلا في حال الفقر، والآمن المطمئن لا يلتذ بالأمن إلا حين ينتابه الخوف، والضيق والبرم ينتابان الأصحاء والمرضى والأغنياء والفقراء والممتلئين والفارغين، والترف ذروة القرن والجوع أمهر الطباخين، وحتى الذي يغمره الفرح أو تفاجئه السعادة ينفجر بالبكاء، وقد لا يبكي المفاجأ بالنقمة فهل سيظل الإنسان في كبد كما خلقه الله؟ ومتى يشعر بحياته السوية وبأوضاعه المواتية؟
لقد وقفت على فقراء مغتربين يسامون سوء العذاب يتبادلون النكات وينفجرون بالضحك، ومن حولهم أثرياء وكبراء في عبوس مستطير وشرود مذهل وبسور ونفور، ولقد قال لي ذات يوم أحد الأثرياء: السعيد في البيت الحارس والسائق يعودان إلى السكن فيسترخيان بارتياح، ويأكلان بنهم ويتقابلان في سمرهما بشغف يتبادلان أطراف الأحاديث لا يشغلهما شيء ولا يقلقهما أمر، وأنا وحدي الذي أغالب السهر وأتقلب على الشوك وأتجرع الماء ولا أكاد اسيغه، لا لشيء إلا الوهم والتوهم والخوف والحرص والشك هواجس مروعة وتشاؤم مخيف يحجب الرؤية وتظلم معه الحياة.
قلت: ألم تقرأ فلسفة (التعادلية) عند (توفيق الحكيم) وهي فلسفة لا نسلم لها ولكننا نأنس بها، ونرى فيها بعض الحق، وملخصها: (كل قوة يجب أن تقابلها وتعادلها قوة) (وخلاصتها أن الواحد الصحيح وجود سلبي) إذا لابد من التناقض ليظل التفاعل، ولعلها ألصق بالثنائية في الفلسفة.
وأناسي هذا الزمن كما هم في كل زمان أسرى وجود لا ينفكون وممثلون على مسرح الحياة لا يفترون، وفي النهاية يدعوك كل شيء على ما هو عليه ليبادره الوارث للأموال والأعمال، إذ ليس للإنسان من ماله الا ما أكل فأبلى أو تصدق فأبقى، (وكل الذي فوق التراب تراب) و(نفسي التي تطلب الأشياء ذاهبة.. فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا).
هذا الزمان العصي على الفهم والسيطرة ما هو؟ زمان نبادله التداول، نقضيه أو يقضي علينا نستهلكه أو يستهلكنا، إنه الماضي والحاضر والمستقبل، ذلك اللحظة التي أنت فيها إنها اللحظة الأبدية، زمان ينتظمنا جميعاً إنه الثانية بل هو الجزء من سبعة عشر جزءاً من الثانية، إنه زمنان:
- زمن نحسبه بالمقادير {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}
- وزمن نحسبه بالمشاعر.
زمن نتحرك فيه وزمن يتحرك فينا زمن مشترك يمضي بالناس جميعاً وزمن خاص يستبطنه كل إنسان متعدداً بتعدد الأناسي، والزمن الشمولي قد يكون مواتياً يتوافر فيه الأمن والرخاء والاستقرار ولكنه محجوب بالزمن الذاتي بكل معاناته:
أصخرة أنا مالي لا تحركني
تلك المدام ولا هذي الأغاريد
هناك زمن وجودي قال به (سارتر) وسائر الوجوديين، وزمن نسبي قال به (أينشتين) في نظريته (النسبية) وأزمنة أخرى قال بها فلاسفة ماديون وروحانيون أمثال (غاستون باشلار) و(هيدغر)، وفي كتاب (فكرة الزمان عبر التاريخ) استيفاء لتضارب الآراء، وكل الذي يعنينا الزمن الشعوري إذ هناك زمن (الرزنامة) بوصفه خارجياً موضوعياً تاريخياً نكون فيه مُحْدِثين نمارس الأداء فيصطبغ بها، لأنها أحداث لا تكون إلا عبر الزمان والمكان وزمن ذاتي يصنعه تصورنا للأشياء وتفاعلنا معها:
كن بلسماً إن كان دهرك أرْقَما
وحلاوة إن صار غيرك علقما
كم تشتكي وتقول إنك معدم
والأرض ملكك والسما والأنجم
ولك الحقول وزهرها وأريجها
ونسيمها والبلبل المترنم
والمرتهن للزمن الذاتي يكون مكتئباً لشيء قد فات:
(هيهات يرجعه اليك تندُّم).
أو خائفاً من حلول مصيبة
هيهات يمنع أن تَحِلَّ تجهُّمُ
هكذا الملأ مع الملل يفرضونه على أنفسهم ويعيشون عذابات السنين حتى إذا ولى الزمن بكوا عليه بحرقة وتوله، ولقد يكون بإمكان أحدهم أن ينعتق من الضجر، وفي الحديث: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
شعراء وأمراء وأثرياء وفلاسفة ملؤوا الدنيا عويلاً ولم يغيروا من قدر الله شيئاً، وآخرون رضوا بما قسم الله لهم واستقبلوا قدرهم بالصبر والاحتساب وقنعوا بما أوتوا.
لقد طاف المتربيون والمترفون يبحثون عن السعادة وكأن أحدهم ذلك الفيلسوف الذي انطلق بسراجه في رابعة النهار ليبحث عن الإنسان أو عن الحقيقة وهكذا البحث عن السعادة:
ربما استوطنت الكوخ وما في الكوخ كِسْرة
وخلت منها القصور العاليات المشمخرة
وهذه (ميسون بنت بحدل الكلابية) تجسد معاناتها في قصر الخلافة ومن حولها مغريات الحياة وتتمنى الصحراء مع من تحب:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحبُّ إلي من قصر منيف
وظاهرة التشاؤم والألم في الأدب العربي تعكس الأجواء المكفهرة التي يصنعها الوهم.. فأين نحن من (ابن الرومي) و(أبي العلاء المعري) وفي العصر الحديث (محمد حسن فقي)، إنها صناعة يعمد إليها الإنسان تحت تأثير العوامل النفسية أو الفكرية والشعراء والسرديون والمفكرون هم الذين أتقنوا وصف الحياة كما صنعها الإنسان لا كما خلقها الرحمن.
*نقلا عن "الجزيرة"
نشر في شبكة (سعوديون) بتاريخ 17-03-2009