عبدالله خلف العساف*
التأويل ليس تفسيراً للنص أو للمنتَج الإبداعي فحسب، وإنما هو وسيلة للحُكم عليه والوصول إلى نتائج ثابتة تنسجم والإيديولوجيا التي تقف وراء هذا التأويل. من هنا فالانتماء الإيديولوجي أو الفكري أو الفني هو الذي يحدّد اتجاه التفسير والقراءة والحكم. وهو - أعني التأويل- من جهة أخرى توجيه للمنتَج الإبداعي بحسب الإيديولوجيا التي ينتمي إليها القارئ / الناقد.
وبناء على هذا فالتأويل لا يتوقف عند الدلالة الظاهرة في المنتـَج، وإنما يبحث فيما وراء ذلك من عمقٍ يسعى هذا المنتَج للوصول إليه.
وقد بات من الواضح أن هناك في تاريخ النقد اتجاهات متناقضة، ومذاهب متباينة وباحثين يمتلكون نظريات تقع على الضفة الأخرى من نظريات يحملها آخرون. فهناك من يؤول النص أو المنتَج الإبداعي بناء على (الموقف الأخلاقي) الذي يطرحه بغضِّ النظر عن جمالية الشكل الفني. وهناك من يؤوله ويحكم عليه بناء على (القيمة الفنية) التي يقدمها بغضِّ النظر عن القيمة الأخلاقية أو الفكرية. ولو نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى نجد أن هناك من يربط (جمال المنتَج الإبداعي) وعظمته بما يقـدمه من (نفعية مباشرة) للفرد والمجتمع، فيساهم في عملية (التثقيف والوعظ والتعليم). وكلما ابتعد الفن عن هذا الهدف كان فناً قبيحاً ومستهجَناً حتى لو تميّز شكله الجمالي بالجدة والتفرد. وتتجه (زاوية الرؤية النقدية) لدى هؤلاء إلى محتوى المنتَج، فيدفعهم ذلك إلى تشريحه بعزلٍ قسري لجزئياته وعناصره الأساسية المكوّنة له. ومن خلال ذلك الموقف (فالقيمة الجمالية) للمنتَج ترتبط بمساحة الوعظ المتموضع فيه مهملين قصداً أيَّ قيمة فنية للشكل الجمالي. وفي المقابل هناك من يؤول جمال المنتَج الإبداعي بغياب النفعية عنه. فلو حمل هذا المنتج نفعاً ما مهما كان حجمه أو مستواه، فهو كفيل بإسقاط سـمة الإبداع عنه. لأن الجميل يؤول في الفن - من منظور هذا الاتجاه - من خلال قدرته على (ممارسة اللعب والترف الفكري).
من هنا نستطيع أن نفسر مثلاً: لماذا يَعتبر فريقٌ من النقاد أن (جمال الفن) في قربه من الناس وطرحه لمشاكلهم بغض النظر عن أي اعتبارات فنية أخرى، بينما يعتبر آخرون أن هذا النوع من الفن هو (فن رؤية لا رؤيا)، و(فن نسخ وتسجيل لا تشكيل)، ولذلك هم يصنفونه ضمن (الفن القبيح) أو في أحسن الأحوال يخرجونه من هذا الفن إلى حقول أخرى. وهذا يفسر أيضاً: لماذا تختلف مدرستان فنيتان في قراءة ظاهرة إبداعية واحدة، بل إنهما تتناقضان في قراءتهما لنفس الظاهرة. وتنضوي أغلب النظريات النقدية - في تأويلها للإبداع - ضمن هذين الاتجاهين.
ويمكن التمثيل لما تقدّم الشاهد التالي من النقد العربي الحديث. إن مقولة قدامة بن جعفر (الشعر هو الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى) تعني أن أي نص يقترب من هذا المفهوم هو نص جميل وما سواه قبيح. وقد اتكأ (نقاد الرؤية) على هذه المقولة في رفضهم الصريح للحداثة - التي بدأت في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وسعدي يوسف مروراً بمجلة شعر ويوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي - ليس بسبب الوزن والقافية، فأغلب شعر التفعيلة الذي ظهر في ذلك الحين كان موزوناً ومقفى ويدل على معنى، وإنما إلى خروجه عن المألوف الذي أثبته قدامة في تعريفه للشعر قبل أكثر من ألف سنة. وقد كثُر الحديث آنذاك - أعني في فترة الخمسينيات واستمر حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي - على الغموض وارتباطه بالإبهام، وإلغاء هؤلاء النقاد - من ثَمَّ - لكل مفاهيم الحداثة التي تم طرحها، ورافقت صعود شعر التفعيلة، وقصيدة النثر (ممثلة بمحمد الماغوط وإنسي الحاج وفيما بعد نزيه أبو عفش، ورياض الصالح الحسين ). في المقابل ظهر اتجاه آخر يناقض اتجاه الرؤية في النقد رافق صعود الحداثة، وروّج لها يرى أن الشعر الذي يلتزم (بمقولة قدامة سالفة الذكر ) هو ليس شعراً، وليس له علاقة به من قريب أو من بعيد. وهو يدخل ضمن النظم، ولايوجد ارتباط بينه وبين الشعر سوى الوزن والقافية. وهذان العنصران برأي هؤلاء مهمان، ولكنهما لا يجعلان من النص شعراً. فالشعر يعتمد على الصورة والغموض الفني والتخييل الإبداعي والإيقاع. وقد دفع هذا الفهم للنقد إلى الذهاب بعيداً، فاعتبر أن محمود درويش ليس شاعراً، وما هو سوى خطيب مفوّه يحرّض الجماهير على مقاومة الاحتلال. وهذا دور كبير يحسب له تاريخياً دون أدنـى قيمة فنية يمكن أن تشمله أو تخصّه. وسوف ينتهي أثر شعره بانتهاء الظاهرة التي عكسها. وسوف تنتهي قيمة نصوصه التي كُتبت عن (أطفال الحجارة) مثلاً بانتهاء ثورتهم على المحتل، وهكذا. وينسحب هذا الحكم على سليمان العيسى وأحمد دحبور وأكثر من ثلاثة أرباع الشعراء العموديين في العصر الحديث.
نقول: ومن أجل فهم هذه الإشكالات المتناقضة العميقة في تأويل المنتَج الإبداعي أنا أعتقد أنه على من يتعاطى مع حقل النقد بعامة، والنقد الأدبي بخاصة أن يُلمَّ بالمواقف الفلسفية والجمالية عبر العصور ؛ لأن ذلك يخدم الناقد في تحديد قراءاته لمفاهيم التأويل المختلفة للمنتَج الإبداعي. ويستطيع من ثم تفسير كافة المواقف المختلفة للتناقضات الظاهرة بين قراءة المدارس النقدية والباحثين عبر التاريخ. فالمعرفة الدقيقة للأصول الفلسفية والجمالية تساعد الناقد على التأويل الدقيق لمصادر الاختلاف والاتجاهات المتناقضة من سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى أفلوطين والمدارس النقدية في القرون الوسطى حتى العصر الحديث، إلى جانب المواقف المختلفة والنظريات التي يتبناها نقادنا في العصر الحديث .
ونحن نزعم أن الإلمام بهذه الأصول يُسهم في فتح المجال واسعاً أمام الناقد، وكذلك المبدع لتفسير كافة المواقف الملتبِسة في النقد، وكذلك الإجابة عن الأسئلة التي تكمن وراء اختلاف النظريات والمواقف النقدية عبر العصور، إلى جانب أن ذلك يساعد الناقد على تحديد موقعه في الحركة النقدية، وفوق كل هذا وذاك يُغني ثقافة الناقد والمبدع معاً.
إن قراءة مركّزة لمواقف الفلاسفة وعلماء الجمال والنقاد عبر التاريخ تضع الدارس أمام حقلين كبيرين مـن مشكلة الفن كانا المرتكز الأساسي لتطور كلٍّ من "الَمَثل الجمالي" و"النقد الأدبي" وبلورتهما ،كما كانا وراء تطوّر العلاقـة الوثيقة بينهما، وكانا من ثم وراء كافة أنواع التأويل الذي تبنّـته المواقف والمذاهب النقدية والتيارات الفكرية والاتجاهات في النقد عبر العصور.
برأينا أن (التأويل) يدخل ضمن الفلسفة. و(الفلسفة) علم شمولي يقرأ الظاهرة من خلال تكامل عناصرها. وكذا (علم الجمال) لا يقوّم الظاهرة الإبداعية إلا من خلال تفاعل خلاّق بين كافة عناصرها، وينسجب ذلك على العلاقة التفاعلية بين (القيمة الجمالية) و(الشكل الجمالي). فالقيمة تبقى مجرّدةً ذات طابع ذهني لو تم تجريدها من إطارها الذي وُلدت فيه وهذا ما فعله الاتجاه الأول، وبالمقابل الشكل يكون مفرغاً جافاً لا قيمة له دون عكسه لمجموع القيم التي يجسدها.
نحن مع التفاعل الخلاق بين كافة عناصر المنتَج الإبداعي، وهو الذي يفرض على الناقد زاوية الرؤية التي يجب عليه أن يقرأه بها ومن خلالها. ونحن أيضاً مع الإفادة من كافة المناهج النقدية لو كانت تخدم التأويل العلمي لقراءة النص.
لعل ما أردنا أن نبيّنه - في قراءتنا المقتضبة لحقل التأويل في النقد - أن يفتح المجال واسعاً أمام تفسير إشكالات التأويل المختلفة في قراءة المنتَج الإبداعي الأدبي والتشكيلي.
*ناقد سوري
نشر في شبكة (سعوديون) بتاريخ 16-12-2008